الاثنين، 3 يونيو 2013

الجزء الثالث والأخير : الربا وما أدراك ما الربا

http://oulou-albab.blogspot.com/2013/05/blog-post.html

رابط الجزء الثاني :
http://oulou-albab.blogspot.com/2013/05/blog-post_28.html

بعدما بينا في الجزئين السايقين من الموضوع ضعف المفهوم القديم من حيث المرجعية وأن النصوص من القرآن أو من "السنة" لا تؤيد هذا المفهوم الموروث، نأتي الآن لنستنبط ما جاء حول القرض والدين من القرآن الكريم، محاولين إيجاد مفهوم بديل يؤلف بين كل ما جاء في مختلف الآيات القرآنية.

في هذا الجزء الثالث والأخير، سوف نصل إلى الهدف المنشود، وهو بيان حقيقة الربا وهل هو مرتبط بالقرض أو بالدين، وهل يخص المعاملات التجارية أم الاجتماعية والإنسانية،  وسنختم بحول الله بخلاصة الدراسة وما انتهى إليه علمنا والله الموفق.

حول الدَّين و الديون :

تعريف الدين :

جاءت كلمة دَيْن ومشتقاتها في القرآن الكريم من خلال آية واحدة هي الآية 282 من سورة البقرة والتي تعتبر بالمناسبة أطول آيات القرآن :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ


عرف الفقهاء الدَّين على أنه الحق الثابت في الذمة.

وطبعا نحن هنا لن نتكلم في التعريف اللغوي الذي لا خلاف فيه، بل سنتكلم عن الدَّين كمعاملة بين طرفين وهل هي معاملة تجارية أم غير ذلك.

فإذا حللنا آية الدين، نجد أن الله تعالى تكلم عن الدين بخصوص توثيقه أي كتابته، لكي لا تضيع حقوق الناس.
وإذا ركزنا في الآية سنلاحظ أنه ليس هناك إشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى أن الدين يمكن أن يكون له علاقة بالمعاملة التجارية أو بقصد الربح، بل على العكس فرق بين هذه المعاملة وبين التجارة الذي استثناها من الكتابة : " إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ" ،وكذا كل أشكال البيوع فذكرها منفصلة : "وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ".
فكما رأينا من قبل أن الربا لا علاقة له بالبيوع، كذلك يأتي دور الدَّين الذي تبين الآية السابقة عدم وجود علاقة بينه وبين البيوع، ولا بكل ما هو تجاري.
فهنا إذا تتكون علاقة مبدئية بين الربا والدَّين، كونهما يشتركان في قضية الانفصال عن البيع والتجارة.

فالدين إذاً هو معاملة اجتماعية بين الناس وهي منفصلة عن التجارة والبيوع.

من جهة أخرى ذكر الأجل في آية الدين، هو للتأكيد على أنه لا معنى لدين بدون أجل مسمى، لأن عدم وجود أجل سيشجع على المماطلة في الأداء وبالتالي ضياع حقوق العباد، وهو ذكر من باب التذكير فلابد وأن تكون هناك مدة يرد فيها المستدين دينه.

فلا مجال هنا للكلام عن الأجل في الدين وعدمه في القرض كما ظن فقهاؤنا الكرام، الذين جعلوا الفرق بين الدَّين والقرض متمثلا في الأجل فقالوا :
الدَّيـن: ما له أجل.
القرض: ما لا أجل له.
؟؟؟؟؟؟؟

وعني شخصيا لا أقبل هذا الفرق، فلا القرض ولا الدين يمكنهما أن يكونا بدون أجل محدد.
فالمقترض أو المستدين كلاهما في حاجة إلى أجل محدد لرد قرضهما أو دَيْنهما.

والفرق بين الدَّين والقرض هو فرق من نوع آخر سوف نستجليه بعد قليل.

يصبح إذا ً الدين معرفا كالتالي :

الدين عطاء مردود بدون منفعة ولا شرط مسبق سوى تحديد المدة أو الأجل.

فهو إذن علاقة إنسانية خيرية وليس علاقة استثمارية للأموال.

فالناس يتداينون بينهم من باب الإنسانية والأخوة و التعاون.
والإنسان يستدين لسد حاجة أو فاقة وما شابهها، ولا يجب أن يستدين لغير ذلك.

وإذا استحضرنا قوله تعالى :

وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
تأكدنا أن ما قلناه ينطبق مع هذه الآية التي تتكلم عن ذوي العسرة وهم أو من بينهم المستدينون الذين تعذر عليهم سداد الدين، فحث الله الدائنين بالتريث أو التصدق بذلك الدين على المستدينين.

فهلا اقتنعنا إذاً بأن الدَّين لا يمكن أن يكون في التجارة أو البيوع ؟؟؟

تعريف القرض :

جاءت كلمة قرض ومشتقاتها في آيات عديدة يمكن أن نذكر منها :

مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ

تبعا للفقه الموروث :
القرض : دفع مال لمن ينتفع به ثم يرد بدله إليه، وبطبيعته ليس له أجل وإلا أصبح دينا.
وهذا هو الفرق بين القرض والدين.
وهذا التعريف قد فندناه سابقا، بقولنا أن كلا المصطلحين : القرض والدين لهما أجل.
وأما القاعدة الفقهية التي تقول : "كل قرض جر نفعا هو ربا"، فسوف نبرهن فيما يلي أنها ليست سليمة، و ذلك بالحجة والبيان.

إذا تدبرنا آيات القرض، نجد أن الله تعالى استعمل كلمة القرض ليعبر عن معاملة تجارية (بشكل آخر) بغرض الربح، وهي تجارة مع الله الذي يضمن الربح بل والربح المضاعف.

فهنا نجد تشبيها بمعاملة اعتادها الناس في معاملاتهم مع بعضهم البعض وهي معاملة تجارية بحتة فيها الربح والمنفعة.
فالأصل أن هناك منفعة في القرض.
وبما أننا نؤمن يقينا أن الله تعالى لا يمكن و لا يجوز أن يشبه معاملة بينه وبين عباده بمعاملة غير مباحة يحرمها سبحانه !!!! ، فالقرض يصبح إذاً معاملة جائزة وتقع في دائرة الحلال...

وبناء على ذلك يمكن أن نعرف القرض بأنه:

عطاء مردود بقصد المنفعة والفائدة.

فهو إذاً علاقة استثمارية بين الناس وليس علاقة خيرية إنسانية اجتماعية.

كما أنب أحب أن أؤكد أيضا أن القرض فيه ما هو حسن وما هو سيئ. (مثلما هي جميع المعاملات بين الأفراد).
وكما جاء في الآيات التي حصر القرض الحسن في وصف التعامل مع الله تعالى، وهذا ليس صدفة بل هو حث على تحري هذا القرض الحسن، وفي نفس الوقت تذكير على أن هناك قرضا ليس بالحسن.

وطبيعة الاقتراض وشروطه هي التي تحدد هل هو قرض حسن أم سيء.
مثله مثل التجارة فهناك تجارة حسنة وهناك تجارة سيئة.

وسنذكر فيما بعد تصورنا لهذا الفرق، ومتى يصبح القرض الحسن سيئا.

الفرق بين القرض والدين :

نستجلي بقوة الآن الفرق بين القرض والدين، وهو المتمثل في طبيعة المعاملة نفسها هل هي تجارية فهي إذاً قرض، أو إنسانية اجتماعية فهي إذاً دَيْن.

أولاً :
القرض هو مرتبط بالفائدة فهو قابل للنمو.
وأما الدًّيْن فلا.

ثانياً:
الدَّيْن هو عمل خيري تُرد قيمته كما هو.
القرض هو عمل استثماري تجاري ترد قيمته مع الفائدة.

فلا دخل إذا ً للأجل في الفرق بين القرض والدين، كما ظن فقهاؤنا الكرام أو بعضهم.

وهذا جوابنا على السؤال الأول (ما هو الفرق بين القرض والدًّيْن).

ونضيف قائلين :
الدَّيْن هو عمل المؤسسات الخيرية وغيابها يجعل المؤسسات المالية، التي من المفروض أن تشتغل بالقرض، تستغل هذا الغياب وتقوم مقامها.

والمسؤولية تقع على عاتق الدولة والمجتمع في تجهيز مؤسسات خيرية ممولة من الزكاة والصدقات والتبرعات تقوم بدور الدائن.

وأما المدين فعليه أن يلجأ إلى من يستدين منه لا أن يقترض ما يحتاجه من مؤسسة مالية استثمارية، إلا إذا اضطر لذلك، والآثم في هذه الحالة (وفي نظري) هو المقرض الذي لم يقيم طبيعة حاجة طالب المال هل هو مقترض أم مستدين.

وكما قال تعالى :
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا....
فالواضح من الآية أن الذي يقدم الدين بغرض الربح والاستثمار أي الذي يأكل الربا هو الآثم.
وفي آية أخرى " ... وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ ..." وآخذ الربا وآكله سواء.

فهنالك استغلال لحاجة الناس في الاستدانة وتحويل الحاجة إلى طلب لقرض بغرض التجارة وهذا أسوء استغلال لحاجة الناس وفقرهم.
هنا يجب التأكيد على أنني لا أنفي مسؤولية المستدين بالربا في تحمل الإثم، إلا إذا كان اضطراراً (وفي الغالب هكذا يكون خصوصا في مجتمع تغيب فيه مؤسسات خيرية تقوم بمساعدة ذوي العسرة).

تصبح بالتالي الإجابة على السؤال الثاني واضحة، والذي تحدد أيا من المصطلحين له علاقة بالربا، القرض أم الدين.

فتبعا لما بيناه سالفا فالربا يكون في الدين وليس في القرض.

والتعريف السائد للقرض أو القاعدة التي تعتبر من المسلمات الفقهية التي ينطلق منها جل الباحثين في قضية الربا، ألا وهي :
"كل قرض جر نفعا فهو ربا." تصبح غير صحيحة.
والأصح أن نقول :
"كل دَيْن جر نفعا فهو ربا".

وإلا لكان تعامل ربنا مع الناس في مجازاتهم لإقراضهم له هو من الربا !!، وحاشا أن يكون كذلك ، فلا يليق ذلك بالذات الإلهية ولا يجوز أن ينهانا ربنا عما يتعامل به معنا.

فهو الذي يقول : مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ

نضيف إلى ما قلناه سابقا، ونؤكد :

- القرض بطبيعته فيه منفعة وهدفه استثماري.
- الدين لا يجب أن يجر منفعة وإن جر فهو ربا.

فلا ربا إذاً إلا في الدين.

فيما يخص السؤال الثالث عن علاقة الربا بالصدقة أقول :

في قوله تعالى :

يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
لماذا تم ذكر الربا في هذه الآية وتم ربطه بالصدقة وبهذه الطريقة ؟
لا شك أن العلاقة بينهما ليست بمحض الصدفة، فالقرآن لا نجد فيه مكانا لصدف أو لعشوائية في منظومته الكلامية.
ومن هذا المنطلق يمكن أن نستنتج وبسهولة من هذه الآية أن الربا والصدقة مصطلحان متقابلان ، بمعنى أننا يمكننا تصور الصدقة كحل لقضية الربا من خلال اعتبارها كطريقة لسداد الدين عن المستدين، وطبعا لا يمكن أن يكون ذلك إلا في المعاملات الإنسانية الخيرية ، فلا يعقل أن تكون في المعاملات الاستثمارية.
وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار هذه الآية دليلا آخر على ما قدمناه سابقا بخصوص الربا وأنه يكون في الدَّيْن وليس في القرض.
وإتماما لما ذكرنا بخصوص الصدقة، فهي تعتبر كبديل من أجل تعويض المدين في حالة عجز المستدين عن السداد، أو أن يعتبر المدين الدين صدقة في سبيل الله وبالتالي يتنازل عنه.

ويؤكد قولنا هذا ما أدرجناه سابقا بخصوص الآية التالية :

وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
اليسرة هنا أن يصبر المدين على المستدين، وأن يتصدق فذلك في الأجر العظيم.
بخصوص السؤال الرابع عن علاقة الربا برأس المال :

قبل أن نجيب عن هذا السؤال، لا بد وأن نتطرق إلى آبة مهمة أعتقد أنها لم تأخذ حقها من الدراسة سواء من طرف الفقهاء او من طرف المتخصصين في المعاملات المالية والتي يمكن أن يستنبطوا منها الكثير. وهذه الآية هي :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
لماذا قال تعالى : أضعافا مضاعفة ؟؟
هل النهي عن أكل الربا بدون تحديد الزيادة غير كاف ؟؟
هل تحديد الضعف والأضعاف مقصود في الآية ؟؟؟
هل يمكن فهم ذلك أن الضعف الواحد للمبلغ مسموح به كفائدة قابلة للاسترداد ؟؟
أو يمكن أن نفهم أنه ليس هناك ربا إلا إذا كانت الفائدة تفوق ضعف مبلغ الدين الأصلي.. أي رأس المال ؟
وكيف يستقيم هذا الفهم مع الآية التالية :

وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ
وهل يمكن أن تكون هناك فائدة في الدَّيْن ونحن قلنا سابقا أن الفائدة تكون في القرض و أنه لا ربا في القرض ؟؟
أم أن هناك تقاطع ممكن بين القرض والدين ؟؟؟
أي بمعنى آخر، هل يمكن مثلا أن يصبح القرض دَيْناً ؟؟

هناك حلقة مفقودة لا بد من إيجادها للتوفيق بين مدلولات الآيات.
فكل ما ذكر حول الربا يجب أن يكون متناسقا في الدلالة والمفهوم.

ونحن نؤمن أن أي تصور لمفهوم الربا لا يؤلف بين المفاهيم الكامنة في كل الآيات التي تتطرق له والمصطلحات المتعلقة به، وبالاعتماد على تصورات مبنية أساسا على موروث ظني ، يعتبر تجاوزا خارقا لكل المناهج العلمية وقفزا فوق العقل الراشد الذي لا يقبل إلا ما أسس على بنية معرفية وعلمية صلبة.

ما انتهى إليه اجتهادي في هذه القضية وخصوصا في الحَلَقَة المتعلقة بالربا ورأس المال والأضعاف المضاعفة وبالموازاة مع ما ذكرته سابقاً بخصوص القرض والدَّيْن والصدقات يتبين لنا التالي :

تحريم الربا راجع إلى كون المرابي ينمي ماله عن طريق استغلال المدان لضعفه وحاجته، وهذا هو ربا الدين وهو الربا الوحيد، وهو حرام، وأما القرض فهو علاقة بالتراضي ليس فيها استغلال (تجارة عن تراض) لأن المقترض يستفيد من القرض من أجل منفعة مادية معينة، لا يكون في حاجة ماسة إليه، إذن فهو نوع من التجارة والتجارة متى كانت عن تراض بين الطرفين فهي مباحة.
يقول تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا                   (29) سورة النساء


في المقابل عندما تتجاوز قيمة المنفعة من القرض وهي الفائدة الحد المتفق عليه والتي يمكن أن تصل إلى "الضعف" أو أكثر، وهذا ما يقع عندما يتأخر المقترض عن سداد المتأخرات، هنا ندخل دائرة الحرام لأن الضعف سيصبح ضعفين أو أضعافا، وبالتالي يصبح للمقترض ديونا مستحقة السداد غير الدين الأصلي فيتحول القرض مع الفائدة إلى دَيْن مع الفوائد فتكون بذلك هاته الزيادة هي عين الربا.

إذن ففي حالة تحول القرض إلى دَيْن، وإذا أردنا تجنب الحرام الذي نبهنا الله إليه، يجب أن يتوقف العداد عن العد.

فلا يعقل أن يعجز المقترض عن السداد ويستمر المقرض في حساب الفائدة.


ولكن تبقى لنا مشكلة، وهي أن هناك من سيقول أنه لا ذنب للمقرض في هذه الحالة، وأن الفائدة يجب أن تستمر لكي لا يخسر هذا الأخير.

وهنا أقول :
المقرض هو في الأخير تاجر، وهو في معاملته مع المقترض، يجب أن يضع في اعتباره احتمال عدم استطاعة هذا الأخير في رد دبنه (القرض + الفائدة)، وهو خطر ممكن الحدوث ويجب تدبيره، وهذا ما تفعله المؤسسات المالية حاليا (ولكن للأسف لا تتحمله وحدها بل تحمله أيضا للمقترض) .
وحتى في التجارة العادية هناك احتمال للخسارة لعوامل عدة، فلماذا لا يكون حتى في القروض ؟؟

باختصار، فمبلغ الفائدة مع القرض الأصلي يصبح دَيْنا وبالتالي لا يجب أن تزداد قيمته مع المدة الزمنية، لأن هذا هو عين الربا.
وهنا نستحضر كلامنا السابق عن القرض الحسن والقرض غير الحسن.
ونقول :
القرض يبقى جسنا مادام لا يؤدي إلى "أكل للربا" وهو ما حرمه الله تعالى.

يجب أن يكون هناك حد معقول تتوقف فيه زيادة الفائدة وهو الضعف الواحد على أكثر تقدير.
فإذا تعدى ذلك يصبح أضعافا مضاعفة وهو ما نهى الله عنه.

وبالمناسبة فتحديد الضعف في الآية ليس ثابتا، فيمكن أن تكون نسبة مئوية محددة حسب القيمة الأصلية للقرض(وهذا اجتهاد دنيوي يبحث فيه المختصون)، لأن الآية الكريمة لا يمكن أن تنزل إلى مستوى التدقيق لتحديد نسب معينة (فالقرآن ليس كتابا عاديا بل أسمى من ذلك وهو يتعرض بشكل عام للكليات)، بل يكتفي في أغلب الأحيان بالإشارة (والضعف هنا مجرد إشارة).

و أما المدين فيسترد حقه المكفول وهو رأسماله الذي يساوي المبلغ الأصلي المقترَض مع الفائدة المتفق عليها مسبقا.

وكما قال تعالى :
فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ


وكخلاصة :

ما نؤكد عليه مرارا وتكرارا، هو عدم خلط الربا مع السيء من المعاملات التجارية.

في أي مجال كان تجاريا أم لا، يجب الابتعاد عن كل المعاملات السيئة و عدم التعامل إلا بما هو حسن.

فالاحتكار مثلا والذي يعتبره الناس في جميع المجتمعات أمرا غير مقبول، لا يحتاج إلى نص ديني يحرمه، و مادام يشكل ضررا على الفرد والمجتمع، فهو منهي عنه.
وحتى في الإسلام فالأحاديث والروايات التي تتطرق للاحتكار تكاد تكون منعدمة في الصحاح.
ولكن رغم ذلك فلن تجد أحدا يدافع عن الاحتكار ويعتبره أمرا حسناً !!!

وقس على هذا الأمر الكثير من أشكال التجارة الفاسدة.

إن وجود الخلافات الفقهية حول مسألة تصنيف الربا أو تقييم المعاملات الربوية، تجعل الأمر كله خاضعا للنقد والمراجعة، ولأجل ذلك قمنا بهذه الدراسة، التي نسعى أن تكون فيصلا تريح الناس من هذه الخلافات وتيسر التعقيدات الموجودة التي خلقتها الاتجاهات العديدة للمذاهب والتيارات.

واعتبارا لذلك :
وفي وجود كتابات كثيرة للسلف حول المعاملات المالية التي تبقى في أحسن الأحوال صالحة لزمانها لتغير الظروف والأدوات وأشكال هذه المعاملات،
وبالرجوع إلى ما فصلناه في هذه الدراسة، والذي استعملنا فيها مقارنة بين ما ورد في الفقه الموروث وبين اجتهادنا المتواضع،
و مقاربة بين كل ما ذكر مع العقل والمنطق والهدي القرآني،
نستعرض مفهومنا الجديد للربا في ضوء كلام الله الذي استنبطنا منه ما هدانا الله إلى استنباطه.

وانطلاقا من مبدأ كان مقدمة لهذه الدراسة وهو أن الخلاف الموجود في قضية الربا هو ليس خلافا على تحريمه بل على مفهومه.

نلخص نتائج دراستنا في التالي :

1-    الربا يكون في الديون لا في القروض.
2-    الدين هو معاملة انسانية خيرية.
3-    القرض هو معاملة تجارية استثمارية.
4-    القرض فيه القرض الحسن وفيه القرض السيئ.
5-    القرض الحسن يصبح سيئا إذا تحول إلى دَيْن وفي نفس الوقت ظل محتفظا بنفس حيثيات وطبيعة القرض وبالتالي جر ربا.
6-    المؤسسات الخيرية هي المسؤولة عن الديون، التي يجب أن تكون موجهة للمحتاجين، وأن تكون من بين مواردها الزكاة وتبرعات الأغنياء.
7-    المؤسسات الاستثمارية فهي المسؤولة عن القروض، و معاملاتها هي معاملات تقوم على أنشطة مرتبطة بإدارة المال واستثماره بطرق شتى، ويدخل ذلك في باب التجارة المشروعة طالما التزمت بالضوابط الشرعية انطلاقا من القاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار"، ويجري على هذه المعاملات ما يجري على أي معاملة تجارية أخرى.
ومن واجب هذه المؤسسات أن تتحرى طبيعة حاجة الزبون هل هو مقترض لغرض استثماري أم هو من المحتاجين لسد فاقة من قوت أو لمرض أو لضيق من أي نوع.

في مجتمعنا سوف نجد جميع أشكال المعاملات المالية :
فسوف نجد الديون التي يتعامل معها الدائنون على أنها قروض ففي هذه ربا.
فكل فرد أو مؤسسة مالية أو أيا كان يقدم قرضا لفرد أو مؤسسة محتاجة إلى دين فقد تعامل بالربا.

والأمثلة على ذلك عديدة نذكر منها :
المؤسسات التي تقدم قروضا لمن يحتاج إلى إطعام نفسه ومن هم تحت مسؤوليته، أو إلى تطبيبهم أو إلى شراء حاجياتهم الضرورية أو لممارسة عبادة كالحج أو لأداء سنة كأضاحي العيد، وكل ما شابه ذلك، يدخل في باب الربا أو على الأقل في باب القروض السيئة.
وهنا سوف نجد أمثلة لمؤسسات مالية عديدة، تمارس هذا النوع من القروض.

في هذه الحالة، بجب أن تكون هناك مؤسسات تستدين منها هذه الطبقة من المجتمع وبدون فوائد، ولم لا مساعدتهم مجانا، واعتبار ذلك من الصدقات والزكوات.

بالمقابل نجد القروض التي تتعامل بها المؤسسات أو الأفراد محترمين قواعد القرض الحسن، و بذلك تستفيد جميع الأطراف وينمو الاقتصاد.

وسنجد كذلك حالات يتعامل فيها المقرض بقرض حسن ثم يحوله إلى قرض سيئ باستغلال المقترض حين وصول أجل سداد قرضه.

فكثيرا ما يتم إفلاس شركة أو تاجر أو ربما لحبسه وربما لانتحاره بسبب غرقه في ديون متراكمة، كانت أول الأمر ديونا بسيطة فتحولت بقدرة قادر وطبعا بسبب تضاعف الفوائد المستحقة، فأصبح هناك ربا واضح، وهو ما حذر منه ربنا تعالى حين توعد المتعاملين بالربا بحرب منه.
وهذا راجع إلى الخطر الكبير الذي يلحق بالمستدينين والذي يمكن اعتباره ظلما كبيرا.

وأخيرا وليس آخرا:
وبشكل عام :
الحرام ما حرمه الله، والحلال ما دونه.

دائرة الحرام يجب أن تبقى ضيقة وما وسعناها إلا ضيقنا بذلك على الناس في معاشهم وحياتهم.
وتبقى القاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار" من أدوات تحري الحلال والحرام.
وهي المنطلق والمرجع في حال اختلاف الأمة حول قضية ما فقهية كان أو شرعية.

والله أعلم...


أسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت في هذه الدراسة وأن يكون اجتهادي في الاتجاه الصحيح، وإيمانا مني بأن الخطأ ممكن ووارد، وكما قال تعالى : " وليس عليكم جناح فيما أخطأتم فيه ولكن ما تعمدت قلوبكم"، وأنا لم يكن اجتهادي إلا من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شارك برأيك، وكن من المتفاعلين...