الأربعاء، 24 يوليو 2013

تجديد الخطاب الإسلامي وفقه المراجعة

ما من مسلم أو متتبع لشأن الأمة الإسلامية ينكر أو يستطيع أن ينكر أننا كمسلمين نعيش مرحلة عصيبة ومحنة فكرية تتمثل في عدم القدرة على إيجاد العلاج الأمثل والأسلوب الأفضل للخروج بهذه الأمة إلى طريق النجاة ووضعها على الصراط المستقيم.

والوضع الحالي لنا كمسلمين لا يعكس القيمة الحقيقية لهذا الدين القويم، وبالتالي أصبحت الحاجة ملحة إلى مشروع متكامل للإصلاح الديني.

هذا المشروع يرى الكثير ممن يأخذون على عاتقهم مسؤولية الإصلاح الديني وأنا منهم أن من أهم مكوناته تجديد الفكر الديني وارساء فقه المراجعة، في حين، يتجه البعض إلى تبني فكرة أن الإسلام في حاجة إلى قراءة جديدة لمرجعياته وعلى رأسها القرآن الكريم.


والحديث عن "قراءة جديدة" كأداة من أدوات الإصلاح هو حديث يطرح الكثير من الاستفهامات، خصوصا عندما يتعلق بأٌقدس الكتب لدى المسلمين وهو القرآن الكريم، وأرى أن المصطلح في حد ذاته غير مناسب من حيث التعبير ناهيك عن انه من المستحيل أن يكتب له النجاح كمشروع، لأنه وبكل بساطة يعطي انطباعا أوليا أن هناك قراءة قديمة لم تعد صالحة لهذا العصر وكان روادها على خطأ طيلة قرون خلت، وهذا في حد ذاته سيخلق مقاومة تلقائية من لدن المتلقي وخصوصا أنصار التيار السلفي الذين يرون بل يؤمنون أنه ليست هناك قراءة أفضل مما قدمه السلف.

وكانت هذه المقاومة هي المعول الهادم التي أفشلت كل مشاريع الإصلاح سابقا وفي مرحلتها الجنينية.
إذا من أجل إنجاح أي مشروع للمراجعة في الحقل الديني، من الواجب أن تكون لدى المهتمين بشأن الإصلاح، والمؤمنين بضرورة مراجعة الموروث الديني، ، قناعة تامة بضرورة تغيير مصطلح "القراءة الجديدة" وتبني آخر أكثر ملاءمة وأقل وقعا على المتلقي.

شخصيا ومنذ أن بدأت بالاهتمام بهذا المشروع كنت أتبنى دائما مصطلح : "الخطاب الجديد".
فما أراه خاضعا للتقويم والإصلاح وأراه مناسبا ومتقبلا من طرف أكثر المتلقين، وهذا استنتاج جاء ثمرة لحوارات عديدة مع أفراد المجتمع الإسلامي بأطيافه وتياراته، ليس المادة الفقهية الدينية المرتبطة بالأصول، بل الأسلوب والمنهج الذي لقن (بضم اللام) بها للعامة ثم توارثتها الأجيال بنفس الطريقة، إننا نتكلم عن "الخطاب الإسلامي" الذي عاشته الأمة الإسلامية طيلة القرون الماضية وساهم في تأسيس العقليات التي تعيش بين ظهرانينا.

لقد خضع هذا الخطاب ومنذ نشأته لظروف الزمان والمكان، فاجتهد حاملوه وقدموا فهمهم للإسلام من خلال رؤية إنسانية شخصية وانطلاقا من ثقافة سائدة في وقتها.

فلا أرى مانعا بل أرى من الواجب أن يكون هذا الخطاب قابلا للتغيير كلما كانت هناك ضرورة تخلقها أو تقتضيها وضعية دينية حرجة.

في المقابل، لا يمكن أن ننكر أن هناك الكثير من محتويات الموروث الإسلامي التي تحتاج إلى أن نتعامل معها بشكل مخالف لما هو موجود.

وهذا طبعا لا يتناقض مع ما قلناه سابقا في هذا الموضوع، لأننا رفضنا "القراءة الجديدة"  من حيث المصطلح وليس من حيث المفهوم خصوصا عندما يتعلق الأمر بمرجعية رئيسية كالقرآن الكريم والذي لن نجد وصفا أكثر دقة من مصطلح "تدبر" كما أمرنا بذلك سبحانه وتعالى.

أما الموروث الإسلامي فهو لا يحتاج فقط إلى قراءة جديدة بل إلى تنقية وتصفية وتقويم بعض مكوناته، والأهم من ذلك إيجاد الثغرات التي ساهمت في بلورة الخطاب السابق.

تغيير الخطاب الإسلامي هو شيء طبيعي بل أمر لا مناص منه، فهو الذي عاش مراحل عديدة منذ البعثة النبوية واستمر في التطور لقرون. فكان هناك الخطاب النبوي في المرحلة الأولى والذي تميز بتفعيل القرآن الكريم وبمنهاج النبوة المتمثل في الحكمة التي تعلمها الرسول من ربه وعلمها من بعد ذلك للناس.

ثم أتت بعد ذلك المرحلة الثانية بعد وفاة الرسول (ص) والتي تميزت بفقدان الجانب الروحي والغيبي في شخص الرسول والذي افتقد في الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه، وهذا شيء طبيعي تنبأ به القرآن الكريم، لتظهر الردة وتبدأ محاولة لسد الفراغ برواية الأحاديث التي بلغت أوجها في القرن الثاني للهجرة.

ثم نجد كمرحلة ثالثة : مرحلة ما بعد الخلافة الراشدة والتي بدأ فيها عصر الفتن (معاوية والحسن والحسين والدولة الأموية)، وهنا لاحظنا ظهور خطاب إسلامي اتخذ الشرائع والأحكام كأولوية وتولدت عنه اتجاهات فقهية، وكان ذلك مع دخول أمم وشعوب مختلفة في الإسلام من فرس وروم وهنود غيرهم....

تغير الخطاب الإسلامي في كل مرحلة جعل من الدين مزيجا من الأصول والثوابت التي اختلطت بالاجتهادات الإنسانية الفقهية، ثم بلورت ذلك الخطاب الإسلامي الذي ربما كان صالحا آنذاك في مرحلة من المراحل.

وجاء بعد ذلك الخلف ونقل عن السلف كل الموروث دون أن يميز بين الأصل الثابت المشرع من لدن حكيم وخبير، وبين الاجتهادات البشرية سواء النبوية منها أو ما سنه الخلفاء والأئمة والفقهاء.
هذا التحليل التاريخي المبسط، هو ضروري لكي نفهم ونعي أهمية تغيير الخطاب الديني بحسب المرحلة أو العصر الذي نعيش فيه، بل أكاد أقول أنه سنة من سنن الله تعالى في كونه.
كل شيء خاضع للتغيير والتجديد، فهذا من سنن الله، وحده القرآن الكريم المرجعية والمركزية التي تحكم هذا التغيير وهذا التجديد.

وهذا ما جعله معجزا للعالمين، وهو يشكل الاستثناء الوحيد، وهو الضابط لكل انحراف أو زيغ عن صراط الله المستقيم، وعن سنة الله التي لن نجد لها تبديلا، والتي ضمن لنا ربنا عز وجل ثباتها مهما تغير الزمان والمكان.

نأتي الآن إلى السؤال الأهم في هذه القضية، وهو :
ماذا يجب أن يتغير في خطابنا الإسلامي ؟

تغيير الخطاب يقتضي أولا تغيير الأدوات طبقا للقواعد والنظم المعرفية، من أجل أن يكون المتلقي أكثر إدراكا واستيعابا، فقد انتهت ثقافة الرواية منذ زمن، ونحن نعيش زمنا أصبح الوصول فيه إلى المعلومة أسرع من التفكير فيها، وأصبح التحدي هو كيف نستغل هذه  المعلومة و قبل ذلك كيف نتعامل معها.

إن تأسيس فقه إسلامي جديد أو بناء فكر إسلامي متجدد ومتكامل يجب أن يرتكز على أرضية فلسفية ومنهج علمي ومعرفي عالمي.

ومن تم تصبح دراسة الموروث الإسلامي في إطار فقه المراجعة أمرا حتميا ومرتبطا ارتباطا وثيقا بتغيير الخطاب الديني.

من جهة أخرى يجب أن تنطلق هذه الدراسة من قناعة مسبقة بأن الأمر ليس قطيعة مع الموروث، ولكنه عمل على غربلته وتنقيته وتصفيته من شوائب الأزمنة الماضية التي علقت بالخطاب الإسلامي آنذاك، والتي اقتضته الضرورة في مراحل معينة خصوصا عصر الفتن والحروب، فنجد تلك التي تحكمت فيها السياسة والمصالح والطائفية والمذهبية، وأخرى ساهمت فيها ثقافة الرواية المليئة بالأخطاء المنهجية التي ربما كان من الصعب إدراكها آنذاك.

بالمقابل، مما أحب أن أشير إليه دائما، فكل قطيعة مع الموروث أو محاولة لقلب كل المفاهيم تحت ضغط الظرفية وأهواء النفس بدون أي ضبط للمناهج والأدوات ثم الأهداف والغايات، ستؤدي حتما إلى الفشل وبالتالي تشويه أي محاولة تجديد عقلانية راشدة، وخنق لكل إرادة جادة ساعية إلى التقويم والإصلاح.

إن أي فكر وأي اجتهاد غير منضبط وغير مبني على مناهج علمية وأسس معرفية متينة هو قابل للاستخدام السيء أو الجاهل أو العشوائي وبالتالي الوصول إلى مفاهيم شاذة وشطحات فكرية خطيرة.

والمتفكر الجيد الذي اطلع على أفكار بعض من أنصار هذا التيار الشاذ في العالم الإسلامي سيكشف ذلك تلقائيا.

ما أود أن أؤسس لهشخصيا هو موقف الوسطية بين الفكر الجامد الذي يكرسه الاتجاه السلفي الذي لا يؤمن بالاجتهاد والتجديد (وإن فعل ذلك كان فقط نظريا لا ينزل إلى التطبيق)، وبين الفكر المتشدد في التغيير والرافض للموروث بصالحه وطالحه، والذي يرى أن السلف لم يحسنوا في أي شيء ولم يدركوا أي شيء، مستغلا وجود تقوقع فكري وقصور في إدراك بعض المفاهيم في الشرع، فبالغ في تسفيه السابقين وانطلق في تحريف الدين حتى في أصوله وثوابته.

إن تطور الفكر في عصرنا الحاضر والذي ساهم فيه بشكل كبير تطور العلم والمعرفة، يجعل أرضية الاجتهاد أكثر خصوبة مما كانت عليه في العصور الماضية.


في الأخير يبقى مشروع مراجعة الموروث وتجديد الفكر الإسلامي مشروعا ضخما ليس من السهل إنجاحه، وفي نفس الوقت ليس مستحيلا....وإنجاحه يظل مرتبطا بتكاثف الجهود من كل الأطراف، مع حسن النوايا، وهو رهين بالعزيمة والإرادة ونبذ الكسل الفكري الذي يشل كل مشروع ولو كان صغيرا.