الحاجة هي أم
الاختراع... هذه مسلمة لا
نقاش فيها، وعلى أساسها نشأت الحضارة.
ولما كان الفكر
بجميع أنواعه هو المحرك الرئيسي لهاته الحضارة كونه يشكل نواة المنظومة التي تعتمد
عليها الاختراعات البشرية، فمن الطبيعي أن يخضع لنفس المنطق.
بناء على ذلك،
يمكن أن نستنتج القاعدة التالية :
أي فكر لا يتأسس وفق
هدف واضح ولا يحركه دافع معقول ولا تحكمه نية سليمة، فهو يدخل فيما يصطلح عليه ب"الترف الفكري".
إن هذه القاعدة
ضرورية لكي تشكل منطلقا لجميع دراساتنا وكتاباتنا بل وقبل ذلك قراءاتنا، وفي جميع
المجالات سواء الأدبية أو العلمية أو التاريخية وغيرها دون أن ننسى طبعا وبشكل رئيسي
ما يتعلق بالحقل الديني.
وعلى هذا الأساس،
ودون الدخول في متاهات فلسفية عبر الخوض في مفهوم الترف الفكري، سوف نقتصر على
أمثلة من دراسات وكتابات معاصرة وقبلها من فكر السلف، إيمانا منا بأن المثال خير
طريقة لتوصيل الفكرة وأخذ العبرة.
وسيكون الاقتصار
في هذه الأمثلة على ما يخص الفكر الإسلامي الذي يشكل نواة أبحاثنا ومجال اهتمامنا.
وبالمقابل لن
يكون هناك تحليل أو تفصيل لرأينا اللهم إشارة إلى وجهة نظرنا فيها، وإلا نكون
متناقضين في طرحنا الحالي الذي يدعو إلى عدم إنهاك عقولنا فيما لا يفيد.
بل سنركز فقط على
خلوها من أي نفع أو مصلحة للإسلام والمسلمين بل قد تضر بهم في بعض الأحيان.
وخير ما نستهل به
من أمثلتنا من قضايا ثراتنا والذي شهدها تاريخ ضحى الإسلام، قضية "خلق القرآن" التي تبناها "المعتزلة" وقتها والتي شكلت حينئذ مرحلة عصيبة من تاريخ
أمتنا الإسلامية، خسر فيها المسلمون الشيء الكثير، ولم تكن هناك أي قيمة حقيقية،
سوى جعجعة بلا طحين.
وهذه القضية
ارتأينا تقديمها كعبرة وموعظة لمن يقدم على طرح قضايا أو أبحاث من نفس النوع،
وليعلم أن نتيجة ذلك لن تكون أفضل مما انتهت عليها القضية برمتها.
قضية خلق القرآن :
باختصار شديد، هي
قضية أريد بها إلهاء الناس عن قضايا الشورى والعدل والمساواة والحرية، عن طريق
افتعال خلاف نظري ضيق حول ماهية القرآن، هل هو مخلوق أم قديم.
هذا الخلاف شكل
جدلا لاهوتيا في عالم الملكوت الغيبي الخارج عن إدراك البشر، وتحول إلى نقاش
بيزنطي أنهك عقول الأسلاف وحياتهم، ولا يزال بعض الخلف سائرا على المنوال يهرعون
مختلفين ومتخلفين بالرغم من هامشية المسألة وسفسطائيتها.
من الأبحاث
المعاصرة نجد أمثلة كثيرة يمكن اعتبارها ترفا فكريا من الطراز الرفيع !!!
والتي وإن نظرنا
فيها بشكل عقلاني، سوف نستنتج أنها لا تقدم ولا تؤخر، وفي نفس الوقت هي فارغة من
أي فائدة حقيقية وخالية من أي قيمة إضافية يمكن أن ترتقي بفكرنا الإسلامي.
مسألة بنوة
اسماعيل لابراهيم :
البحث في مسألة
بنوة اسماعيل لابراهيم، والتشكيك فيها باعتبار النبي اسماعيل لا يمت للنبي ابراهيم
بأي صلة قرابة !!
والاعتماد في ذلك
تم بناء على تأويلات أحادية للآيات المتطرقة للمسألة، تجاهل فيها الباحث الإشارات القرآنية
الواضحة التي تدل على بنوة اسماعيل لابراهيم، وضاربا بعرض الحائط الفهم السائد عند
كافة المسلمين بجميع أطيافهم.
مسألة الكعبة
ومكانها الأصلي :
البحث في مكان
بيت الله الحرام أو الكعبة المشرفة، من أغرب ما يدور في فلك فكر بعض الباحثين.
ودون الخوض في
حيثيات البحث، لا يسعنا إلا أن نعتبر ذلك وكأضعف الإيمان ترفا فكريا.
هذا إن سلمنا
جدلا بنية الباحث الحسنة، وتعاملنا معه بتسامح شديد باعتباره لا يعي خطورة وعواقب
القضية.
وطبعا مما يجعل
هذا البحث فارغا من القيمة العلمية مهما قيل فيه، هو أنه لا يقدم أي بديل مفترض
ولا مخرجا في حالة ما إذا اقتنع المهتم بالقضية، ومجرد الشك في ذلك يشكل منزلقا
خطيرا يضع ركنا من أركان الإسلام في مهب الريح.
قضية الختان :
البحث في شرعية
الختان من عدمها (ونتكلم هنا عن
ختان الذكور)، باستغلال عدم
وجود نص قرآني في القضية، يعتبر بحثا جريئا خصوصا بالنسبة لمن يعتبر القرآن مرجعية
رئيسية ووحيدة في التشريع.
والتأكيد على نفي شرعية هذه السنة ،التي أعتبرها
شخصيا ومثلي الأمة الإسلامية سنة فعلية متواترة منذ البعثة المحمدية، في غياب أدلة
قطعية تجعل لهذا النفي معنى يجعل فكرة الاعتراض غير مهضومة ولا مقبولة.
أضف إلى ذلك، عدم
توفر الباحث لأية دوافع أو أهداف يمكن أن تشجع على التعاطف مع هذا الطرح أوالاهتمام
به.
كما أن الإجماع
الكبير الذي يلاقيه الختان لدى المسلمين وغير المسلمين وعدم وجود أية نقطة سلبية
في القضية، ينزع أية مصداقية للبحث ويدخله في خانة الترف الفكري.
مسألة القبلة
الأولى والمسجد الأقصى :
البحث في قضية
القبلة الأولى ونسبتها إلى المسجد الأقصى، هي قضية فارغة من حيث المصلحة والمنفعة،
رغم وجود أسباب معقولة نسبيا لذلك.
ففي غياب نص قرآني
صريح ينسب القبلة الأولى إلى المسجد الأقصى، ولتضارب الأدلة تاريخية التي تثبت أن
المسجد الأقصى الذي نعرفه الآن في فلسطين هو نفس المسجد الأقصى الذي أسري إليه
الرسول محمد (ص)، فلا يسعنا إلا أن نعتبر المسألة برمتها غير
ذات قيمة ولا يمكن أن تعود على الأمة بأي فائدة بل بالعكس يمكن أن تضعف قيمة كل ما
يتعلق بالتاريخ الإسلامي.
إن افتقاد الهدف
والمصلحة في التشكيك في الرواية الرسمية والمتعارف عليها، وكذا انعدام وجود أدلة
قطعية تعطي بديلا لهاته الرواية، تبقى القضية ترفا فكريا.
في النهاية أركز
على أن الأمثلة المطروحة هي مجرد عينة مما يدور في فلك الأبحاث والقضايا المعاصرة،
وما قمنا به كان مجرد إشارة وتنبيه إلى خطر الترف الفكري على الأمة الإسلامية
جمعاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك، وكن من المتفاعلين...