الجمعة، 22 فبراير 2013

التدبر القرآني من الهجر إلى التكلف

بسم الله الرحمن الرحيم :
مسألة التدبر القرآني هي مسألة أصبح من الضروري تأطيرها بشكل يقطع الطريق امام من يتهاف عليها بدون ادوات منهجية علمية عقلانية، وفي نفس الوقت التأكيد على ضرورة الإقبال عليها بقلب المؤمن وبعقل رافض للتبعية ومتسلح بالمناهج العلمية.
هدف المقال الأساسي توضيح ما يمكن توضيحه بشأن الخلط المنهجي الذي أصاب الفكر الإسلامي وفرقه إلى ايديولوجيات متطرفة بعيدة عن الفكر الوسطي المعتدل.
وكتتمة لما وضحناه من قبل في موضوعنا "مشروع تصحيح موروثنا الإسلامي" والذي نعلم أن من بين الأدوات الأساسية لتحقيقه التدبر القرآني، والذي ارتأينا أن يكون وفق منهج وسطي يرتكز على أسس عقلانية وعلمية توافق المنهج الرباني الذي أنزل به القرآن الكريم.
وهذه الأسس سوف أتطرق لها باختصار، على أمل أن أطرح دراسة مستقبلية مستفيضة في الموضوع، وهي تتلخص في الآتي :
-  التدبر القرآني ليس زعما أو ادعاء، بل دليل وبرهان.
-  منهج الاستدلال قبل الاعتقاد ضروري لكل وضوح أو بيان ... فلا يجب أن يسبق الاعتقاد استدلالنا وإلا أصبحت خدمة تيار أو مذهب معين هو الهدف وليس خدمة الأمة جمعاء.
-  أي تدبر في فهم آيات القرآن لا يحكمه منهج عقلاني يجمع بين جوانب اللغة والتاريخ والمنطق ومتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة ومتوافق مع المنظومة القرآنية الكاملة، هو اجتهاد لا يؤدي إلا إلى نتيجة عكسية لا يمكن أن يتقبلها الإنسان المسلم البسيط.
 من جهة أخرى، التدبر الذي يعتمد على الاجتهادات التي لا تتخذ منهجا وسطيا بين فكر آبائي سلفي جامد وبين فكر متقرئن (أو ما يسمى بالفكر القرآني) منفلت متشدد، لا يؤدي إلى إلا مزيد من المقاومة التلقائية الفطرية لكل ما يقفز فوق المنطق والعلم والعقل المحكوم بالمنهج الرباني السليم.
إن المنهجين اللذان ننتقدهما هما بالأساس :
منهج الفكر السلفي الجامد الهاجر للقرآن ،
والمنهج الرافض لكل ما ترك السلف والذي دافعه الرئيسي هو الاعتراض من أجل الاعتراض وتطبيق مبدأ "خالف تعرف".
فبعد أن تكلمنا في أكثر من مناسبة عن المنهج الأول الذي يعتمد على التقليد وعلى ثقافة الرواية، نقوم بنقد المنهج الثاني الذي بالغ ويبالغ فيه أنصاره في الاعتماد على رأيهم والتشدد في تطبيق منهج نظري يعتمد على اللغة وحدها (ويا ليتها اللغة الموحدة بل لغتهم هم) ضربا بعرض الحائط آراء الطرف الآخر و مجهودات أمة 14 قرنا ،كما لو أنه لم يكن فيها أي عاقل أو متدبر، وهو ما أودى بهم إلى منعطف خطير أصبحوا فيه يشككون في أي شيء.
فبالنسبة لهؤلاء، لا الصلاة هي الصلاة ولا الزكاة هي الزكاة ولا الحج هو الحج ولا أوقات الصيام هي كما نعرفها !!!!
ناهيك عن قضايا أخرى، يعرفها البعض ويجهلها البعض الآخر..
إن نقدنا هو بالخصوص نقد للمنهج قبل أن يكون نقدا للأفكار، فالأفكار لا بد وأن تشكل خلافا واختلافا.
فنقدنا ينصب على منهج بعضهم في فهم القرآن وعلى سبيل المثال لا الحصر تلامذة صبحي منصور والمنفلتون منهم على الخصوص، والتي تعتمد على التعامل مع القرآن انطلاقا من الصفر ، وكأننا في قبيلة بدائية منعزلة عن العالم والحضارة وفجأة وجدت امامها القرآن كتاب الله.
وهي تحاول استخراج مفاهيم جديدة ولما تقرأه بعيدة عن الواقع الذي عاش على ضوء هذا القرآن لمدة 14 قرنا  !!!!!!
ليس هناك أي عاقل يدخل في هذه المغامرة التي أقل ما يقال عنها أنها من الترف الفكري.
المسألة أشبه بما قام به الفيزيائي ريتشارد فاينمان، وبالمناسبة هو من وجد سبب انفجار المكوك الفضائي "شالنجر"، والذي حاول أن يعيد طرح الفيزياء بطريقته الخاصة، فلما وصل إلى نفس النتائج علم أنه كان ينهك عقله لا غير.
وهذا المثال أتينا به، رغم أنه مثال حول علم مادي "الفيزياء" الذي لحسن الحظ أنه علم لا يمكن أن يتحمل عدة أوجه.
وأتيت بالمثال هنا لأبين أنه لا يمكن أن نأتي في زمن معين ونعيد بناء تصور جديد لشيء مرت عليه عصور وحقب لمجرد أننا وجدنا بعض الثغرات أو بعض المفاهيم الخاطئة.
فلو كانت الأمور بهذا الشكل ما تقدمت الحضارة ولا البشرية.
في مسألة التدبر القرآني يجب أن نركز على الآتي :
هناك فرق بين التعامل مع الواقع وعرضه على فهمنا للقرآن، وإيجاد التناقضات الواضحة بناء على آيات محكمات ليس لها تأويل شخصي، وبين أن نتعامل مع آيات متشابهات تحتمل أكثر من معنى، ونهمل ما حمله التراث وتواتر بشكل لا يمكن أن يفهم إلا أنه محاط برعاية إلهية خفية خاصة.
وأقصد هنا بشكل أساسي مفهوم الصلاة التي انقض عليه بعض المتهافتين على التراث و تصوروا مفهوما آخر غير الذي تواترناه كل هذا الزمن، معتمدين فقط على اللغة لاستنباط مفهوم آخر وشكل آخر وطريقة أخرى من آيات لا تقدم إلا إشارات رمزية وتشرع للصلاة بشكل غير مدقق وهذه هي الطريقة قرآنية الفريدة التي لا تشبه أي نص إنساني آخر والتي تغلب على معظم آيات القرآن.
أضف إلى ذلك مفهوم الزكاة التي أصبحت عندهم مجرد طهارة روحية، ثم عبادة الحج التي جعلوا لمناسكه معاني أخرى غريبة.
فبعد أن لم تجد التفسيرات الباطنية مكانا لها وسط العقلاء من هذه الأمة، أصبحنا نرى تأويلات تصب في نفس المنحى، وتفسر بشكل متكلف آيات لا تنضبط مع آرائهم الشاذة.
ونقدم هنا تصورنا للخطأ المنهجي القاتل الذي يسقط فيه كل من يخرج إلينا بشطحات فكرية غير محسوبة ، فقط لأن شيطانه أتى بها إليه.
وهذا الخطأ والذي أشرت إليه مرارا، هو الاعتماد الكلي والحصري على التفسير اللغوي للكلمة.
فهؤلاء يأخذون القرآن مجردا من أي إطار وأي مناسبة وأي حدث وبعيدا عن التاريخ وكل الأدوات العلمية أو التاريخية، ويستعينون بمعجم لغوي هو أصلا محدث ، ويبدؤون في إنزال المعاني التي يرونها مناسبة لاعتقادهم المسبق بالفكرة التي يحاولون الدفاع عنها.
-  ألا يدري هؤلاء أن الاعتماد على اللغة وحدها، ليس في مصلحتهم، لأن الأولى بالفهم اللغوي هم أصحاب السليقة اللغوية التي تمتع بها قوم الرسول (ص) الذين نزل القرآن بلسانهم وليس المتأخرون في هذا العصر ؟؟؟
كيف يمكن أن يقتنع لبيب بكلام المتأخرين من هذا العصر وهم يتجرؤون على "التفيهق" اللغوي في استنباط مسائل غريبة وعجيبة ليس لها أي قاعدة معرفية أو علمية، يدعون فيها التفوق اللغوي على السابقين ممن كانت اللغة لديهم مثل لعب الأطفال ؟؟؟؟؟؟؟؟
-     ألا يدري هؤلاء أن كل المعاجم اللغوية المعمول بها أُسست بعد نزول القرآن ؟؟؟؟؟
- ألا يدري هؤلاء أن هاته المعاجم هي أصلا مغذاة بتفسيرات مذهبية ودينية خصوصا فيما يتعلق بالكلمات المذكورة حصرا في القرآن ؟؟؟؟؟؟؟
وللإشارة فهذا الكلام الأخير موجه أيضا للمفسرين التقليديين الذين ملأوا كتبا كثيرة بتفسيرات اعتمدوا فيها بشكل رئيسي على كلام العصر الجاهلي من شعر ورواية ليشرحوا مصطلحات قرآنية صرفة.  
-  ألا يدري هؤلاء أن مدلول القرآن يجب أن يبقى مهيمنا على المدلول اللغوي في حال وجود شبهة اختلاف بين المدلولين ؟؟؟؟
-  ألا يدري أن المدلول القرآني ينبني على أسس عديدة منها بدءا بما هو تاريخي وانتهاءا بما هو علمي ، ويتم مقاربة كل ذلك من أجل الوصول إلى المفهوم الحقيقي أو على الأقل الاقتراب منه ؟؟؟؟
وكمثال فقط للتوضيح : ادعاء بعضهم بأن المساجد هي ليست بيوت الله للصلاة بل هي أشياء أخرى متعلقة بمواقع فضائية أو ما شابه ذلك !!!!
والأمثلة عديدة لا مجال هنا لذكرها...
قد يظن قارئ أني ضد التدقيق والتحقيق اللغوي، وأني لا أعطي للخلف الحق في نقد ما وصل إليه السلف !!!
ولكن الحقيقة هي أنني أفكر بواقعية، والواقعية تفرض علينا أن نقول أننا يمكن أن نتفوق على من سبقونا في أشياء أخرى غير اللغة، كالمناهج العلمية وكالمنطق الرياضي وباستعمال التقنيات الحديثة، فبواسطة ذلك يمكن أن نصل إلى ما لم يصلوا إليه بعدما أصبحت لدينا وسائل مساعدة وحرية إعلام وغيره...
أما أن ندعي تفوقنا في اللغة بهذا الشكل المتكلف، فعذرا ، لا يمكن أن يقبل بذلك أي كان وخصوصا العارفون باللغة والدارسون للسانيات.
إن الذي يقفز فوق كل هذا المنطق وفوق كل كلام العقل، إنما يزداد تيها وينهك عقله فيما لا يجدي ولا ينفع.

دون إطالة مملة، أركز إخوة الإسلام على شيء مهم  :
التدبر القرآني هو فرض على الأمة جمعاء، ولكن هذا التدبر لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكون فرديا، بل ولا بد أن يكون جماعيا يجمع كل مكونات الفكر وكل المقومات الإنسانية منذ بدء الرسالة إلى عصرنا الحاضر وأن يكون المنطق والعقل والعلم بتوافق مع روح القرآن والمنهج الرباني مهيمنا على فهمنا وتحليلنا ورؤيتنا الفكرية.
فلا يجب أن نحارب الفكر السابق بفكر يتخذ نفس المنهج ولو اختلف الشكل.
أي تقوقع على منهج أحادي شاذ لن يصل بالأمة إلى إلا مزيد من التعصب للأفكار البالية وخلق شرذمات، كل حزب بما لديهم فرحون.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شارك برأيك، وكن من المتفاعلين...